جميعنا متسولون



جذب انتباهى اليوم ظاهرة غريبة؛ولكنها صارت معلماً من معالم بلدنا وهى التسول..

خرجت اليوم وفى طريقى للكلية صادفت سيدة مسنة تدعو لى بالنجاح!

تمهيداً لى لإعطائها بعض المال. أنى لها أن تعرف أن ذاهبة لأسأل عن نتيجتى؟؟!

يندر ذلك اليوم الذى لا أقابل فيه شحاذاً واحداً على الأقل،وإن حدث فإنه سيكون يوم مبارك بالتأكيد!

لا أريد أن اتحدث عن الظاهرة وأسبابها بقدر ما أريد أن أعرف أين نحن منها؟

كثيراً ما يتردد فى ذهنى هذا السؤال:هما مش بشر زينا؟وبعدين مش باين عليهم مجانين،وصحتهم معقولة_على الأقل باين كدة_عكس بعض الشحاتين الذين يتخذون من عاهاتهم المصطنعة أو الطبيعية مصدراً لرزقهم_طب ليه بيشحتوا،ويهينوا نفسهم،هما معندهومش إحساس بالكرامة وعزة النفس زيينا..ده أنا لو استلفت حاجة من اختى بابقى مكسوفة جداً؛مع إنى هارجعهالها تانى،وكمان ماهما الاخوات كدة..

لكن فجأة خطر لى خاطر عجيب،وهو أن المتسولون هم أغنى الأغنياء..نعم إنهم أغنياء؛لكن ليسوا من التسول،فهم ينقصهم المال،لذلك يلتمسونه فى الطرقات،ولكن بالمقارنة نحن معنا المال،ولكن ينقصنا الكثير.

لا أحد ينكر أن كثير منا ينقصه شئ _أو قل أشياء_وهو إن عرفه فهو دائم البحث عنه،وإن أنكرته نفسه يشعر بالنقص وعدم الاكتمال،حتى يكتشفها،وعندما يكتشفها ينتقل إلى قلق دائم فى سبيل إشباعه.

فمنا من ينقصه الوقت،أو الصحة،أو السعادة،أو راحة البال،ومنا من ينقصه الحب أو الأمان،أو هو فى سعى دائم نحو أهدافه فلا يكاد يستمتع بحياته.

منا من ينقصه الإيمان،وصلة الروح،أو الإحساس بالانتماء والأواصر الاجتماعية،والمجتمع مع كل ذلك يقيده،ويفرض عليه واجبات وضرائب ومسئوليات؛فهو فى جزع وتأهب لملئ هذه الفراغات.

أما المتسول فهو فى شغل عن كل هذا؛فهو يهيم على وجهه،الأرض مسكنه،وكل الكائنات أصدقائه_ما عدا الإنسان_فهو أقرب للأرض،واحد مع الطبيعة،وهو لا يعرف المسئولية؛فمن أحياه فعاش الأمس بتسوله سيحييه اليوم وغداً،وإن كان لا يضمن ذلك على وجه التأكيد!

كل هذا قد يجعلنى أحسد المتسول؛فهو ليس عنده طموح يقض مضجعه،ولا أهداف تستفز فيه مكامن القوة لينفض عنه الثرى الذى وجد موطنا على وجهه ومقلتيه من عدم اكتراثه فأعماه عن رؤية مستقبله،فهو فى غيب عن كل هذا،فأنى له افتقاد الحب أو الأمان أو يفكر فى انتمائه وآرائه تجاه الأحداث ،فلا يشغله سوى شاغل واحد،ولا تستفزه إلا همة واحدة..بعض المال.

إذاً نحن معنا المال،ولكن تكدرنا مسئولياتنا،ونعانى نقصا قد يكون على مستوى المشاعر أو الماديات أو الصلات الروحية والاجتماعية.

فمن المتسول الآن؟؟

المتسول لا تشغله باقى الأشياء؛فالوقت بلا نهاية والمجتمع لا يطالبه بشئ،وهو رئيس نفسه،وهو من يختار مكان تسوله،ويستطيع أن يغيره باستمرار.كما أن المتسول يتمتع بصبر عظيم؛ففى نظرى أن تعمل مدى حياتك تسال المارة سؤالاً واحداً مقابل بعض المال قد يعطونه لك بنفس راضية،أو ينزعونه من قلوبهم نزعاً..

فمن رأيى هذا هو الصبر اللذى صبر لا يذبل مع الأيام،ولا تبدله السنون، ولا تذيبه حرارة الشمس،أو يطفئه برد الشتاء.

فمن المتسول الآن؟؟

فى الواقع نحن المتسولون،كلنا متسول على طريقته.قد كنا زمان نُمنَح الحب من والدينا،ويكفل لنا المجتمع الأمان والانتماء والحماية،كان هذا حقنا لاريب ولا يزال..ولكننا الآن نستجديه.

الموضوع يطول،وقد يأخذنا للحديث عن قيم تلاشت،وحقوق سقطت،وعادات وظواهر فرضت نفسها على مجتمعنا،هذه الظواهر التى استحالت مشاهد معتادة وقد قيل :إلف العادة يستولد التغاضى بلا إرادة .

ولعله مما لا شك فيه أن ظاهرة التسول هى صورة سوداء ليست فى مصر فقط،ولكن فى كل دولة على مر التاريخ،ولكنها اكثر انتشاراً فى عصرنا هذا، ،وهناك بلا شك صفحات مشرقة ولكنها نادرة.

ولعله يصدر كتاب عنوانه “المتسولون”على غرار“البؤساء”أو البائسون على الأصح.

أضف تعليق